الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (233): {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}{والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} شروعٌ في بيان الأحكام المتعلقة بأولادهن خصوصاً واشتراكاً وهو أمرٌ أُخرِجَ مُخرجَ الخبر مبالغةً في الحمل على تحقق مضمونِه ومعناه الندبُ أو الوجوبُ إن خص بمادة عدم قَبول الصبيِّ ثديَ الغير أو فقدانِ الظِئْر أو عجزِ الوالدِ عن الاستئجار، والتعبيرُ عنهن بالعنوان المذكور لِهزّ عَطفِهن نحوَ أولادِهن، والحكمُ عام للمطلقات وغيرهن، وقيل: خاصٌّ بهن إذ الكلامُ فيهن {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} التأكيدُ بصفة الكمال لبيان أن التقديرَ تحقيقيٌّ لا تقريبيٌّ مبني على المسامحة المعتادة {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} بيانٌ لمن يُتوجّه إليه الحكمُ أي ذلك لمن أراد إتمامَ الرضاعة وفيه دلالةٌ على جواز النقص وقيل: اللام متعلقة بيرضعن فإن الأبَ يجبُ عليه الإرضاعُ كالنفقة، والأمُ ترضع له كما يقال: أرضعت فلانةٌ لفلان ولدَه {وَعلَى المولود لَهُ} أي الوالد فإن الولد يولد له ويُنسَب إليه، وتغييرُ العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضي لوجوب الإرضاعِ، ومؤونة المرضعة عليه {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أجرةٌ لهن، واختلف في استئجار الأمِّ وهو غيرُ جائز عندنا ما دامت في النكاح أو العدة، جائزٌ عند الشافعي رحمه الله {بالمعروف} حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعَه {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} تعليل لإيجاب المُؤَن بالمعروف أو تفسيرٌ للمعروف وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبدَ ما لا يُطيقُه وذلك لا ينافي إمكانه.{لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} تفصيلٌ لما قبله وتقريرٌ له، أي لا يكلِّف كلُّ واحد منهما الآخَرَ ما لا يُطيقه، ولا يُضارُّه بسبب ولده وقرئ {لا تضارُّ} بالرفع بدلاً من لا تكلف وأصله على القراءتين لا تضارِّ بالكسر على البناء للمفعول وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضرّ والباء من صلته أي لا يُضَر الوالدان بالولد فيُفَرَّط في تعهده ويُقصَّر فيما ينبغي له وقرئ {لا تضارّ} بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يَضيرُه وإضافة الولد إلى كل منهما لاستعطافهما إليه وللتنبيه على أنه جدير بأن ينفِقا على استصلاحه ولا ينبغي أن يُضَرَّا به أو يُتضارّا بسببه.{وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} عطف على قوله تعالى: {على المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} إلخ وما بينهما تعليل أو تفسيرٌ معترِضٌ، والمرادُ به وارثُ الصبيِّ ممن كان ذا رحِمٍ محرَمٍ منه وقيل: عَصَباتُه وقال الشافعي رحمه الله: هو وارثُ الأب وهو الصبيُّ أي تُمأنُ المرضعةُ من ماله عند موت الأب، ولا نزاعَ فيه وإنما الكلام فيما إذا لم يكن للصبيِّ مالٌ وقيل: الباقي من الأبوين من قوله عليه الصلاة والسلام: «واجعله الوارثَ منا» وذلك إشارةٌ إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوةِ {فَإِنْ أَرَادَا} أي الوالدان {فِصَالاً} أي فِطاماً عن الرَّضاع قبل تمام الحولين، والتنكيرُ للإيذان بأنه فصال غيرُ معتاد {عَن تَرَاضٍ} متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهنُ أي صادراً عن تراض {مِنْهُمَا} أي من الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضُرُّ بالولد بأن تمَلَّ المرأةُ الإرضاعِ ويبخَلَ الأبُ بإعطاء الأجرة {وَتَشَاوُرٍ} في شأن الولد وتفحُّصٍ عن أحواله وإجماعٍ منهما على استحقاقه للفِطام والتشاور من المَشورة وهي استخراجُ الرأي من شُرتُ العسلَ إذا استخرجته وتنكيرُهما للتفخيم {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} في ذلك لما أن تراضِيَهما إنما يكون بعد استقرار رأيِهما أو اجتهادِهما على أن صلاحَ الولدِ في الفِطام وقلما يتفقان على الخطأ {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ} بيانق لحكم عدم اتفاقِهما على الفطام، والالتفاتُ إلى خطاب الآباءِ لجذبهم إلى الامتثال بما أُمروا به {أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم} بحذف المفعول الأول استغناءً عنه أي أن تسترضعوا المراضِعَ لأولادكم يقال: أرضعتِ المرأةُ الصبيَّ واسترضعتُها إياه، وقيل: إنما يتعدَّى إلى الثاني بحرف الجرِّ يقال: استرضعتُ المرأةَ للصبيِّ أي أن تسترضعوا المراضِعَ لأولادكم فحُذف حرفُ الجر أيضاً كما في قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ} أي كالوا لهم {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي في الاسترضاع وفيه دلالة على أن للأب أن يسترضِعَ للولد ويمنعَ الأمَّ من الإرضاع {إِذَا سَلَّمْتُم} أي إلى المراضع {مَّا ءاتَيْتُم} أي ما أردتم إيتاءَه كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} وقرئ {ما أَتيتم} من أتى إليه إحساناً إذا فعله وقرئ {ما أُوتيتم} أي من جهة الله عز وجل كما في قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} وفيه مزيدُ بعثٍ لهم إلى التسليم {بالمعروف} متعلقٌ بسلَّمتم أي بالوجه المتعارَفِ المستحسَن شرعاً، وجوابُ الشرط محذوفٌ لدلالة المذكور عليه وليس التسليمُ بشرطٍ للصحة والجواز، بل هو ندبٌ إلى ما هو الأليقُ والأَولى فإن المراضعَ إذا أُعطين ما قُدّر لهن ناجزاً يداً بيد كان ذلك أدخلَ في استصلاح شؤون الأطفال {واتقوا الله} في شأن مراعاةِ الأحكامِ المذكورة {واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم بذلك، وإظهارُ الاسم الجليلِ في موضع الإضمارِ لتربية المهابة، وفيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى..تفسير الآية رقم (234): {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}{والذين} على حذف المضافِ أي وأزواجُ الذين {يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} أي تُقبض أرواحُهم بالموت فإن التوفيَ هو القبضُ يقال: توفّيتُ مالي من فلان واستوفيتُه منه أي أخذته وقبضته، والخطاب لكافة الناس بطريق التلوينِ {وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أو على حذف العائد إلى المبتدأ في الخبر أي يتربصن بعدَهم كما في قولهم: السمنُ مَنَوانِ بدرهم أي مَنَوانِ منه وقرئ {يَتَوفون} بفتح الياء أي يستوفون آجالَهم، وتذكيرُ العشر باعتبار الليالي لأنها غُررُ الشهور والأيام ولذلك تراهم لا يكادون يستعملون التذكير في مثله أصلاً حتى إنهم يقولون: صُمت عشراً ومن البين في ذلك قولُه تعالى: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} ثم {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} ولعل الحكمةَ في هذا التقديرِ أن الجنينَ إذا كان ذكراً يتحرك غالباً لثلاثة أشهر وإن كان أنثى يتحرك لأربعة فاعتُبر أقصى الأجلين وزيد عليه الأيام العشر استظهاراً إذ ربما تضعف الحركة فلا يُحس بها. وعمومُ اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية والحرة والأمة في هذا الحكم ولكن القياسَ اقتضى التنصيفَ في الأَمَة، وقولُه عز وجل: {وأولات الاحمال} خَصَّ الحاملَ منه. وعن علي وابنِ عباس رضي الله عنهم أنها تعتدُّ بأبعد الأجلين احتياطاً {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي انقضت عدتُهن {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها الحكامُ والمسلمون جميعاً {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ} من التزيُّن والتعرُّض للخُطّاب وسائرِ ما حُرِّم على المعتدة {بالمعروف} بالوجه الذي لا ينكره الشرعُ، وفيه إشارةٌ إلى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرعُ فعليهم أن يكفّوهن عن ذلك وإلا فعليهم الجُناحُ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فلا تعملوا خلافَ ما أُمرتم به..تفسير الآية رقم (235): {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} خطابٌ للكل {فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ} التعريضُ والتلويحُ إبهامُ المقصودِ بما لم يوضَعْ له حقيقةً ولا مجازاً كقول السائل: جئتُك لأُسلِّم عليك وأصلُه إمالةُ الكلام عن نهجه إلى عُرُضٍ منه أي جانب والكناية هي الدِلالةُ على الشيء بذكر لوازمِه وروادِفه كقولك: طويلُ النِّجاد للطويل وكثيرُ الرماد للمِضْياف {مِنْ خِطْبَةِ النساء} الخِطبة بالكسر كالقِعدة والجِلسة ما يفعلُه الخاطبُ من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل فقيل: هي مأخوذةٌ من الخَطْب أي الشأن الذي له خطرٌ لما أنها شأن من الشؤون ونوع من الخُطوب وقيل: من الخطاب لأنها نوعُ مخاطبة تجري بين جانب الرجل وجانب المرأة والمرادُ بالنساء المعتداتُ للوفاة والتعريضُ لخطبتهن أن يقول لها: إنك لجميلةٌ أو صالحةٌ أو نافعة، ومن غرضي أن أتزوَّجَ ونحوُ ذلك مما يوهم أنه يريد نِكاحَها حتى تحبِسَ نفسَها عليه إن رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ} أي أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} ولا تصبِرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهن وفيه نوعُ توبيخٍ لهم على قلة التثبت {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا} استدراكٌ محذوفٌ دل عليه {سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أي فاذكُروهن ولكن لا تواعدوهن نِكاحاً بل اكتفوا بما رُخّص لكم من التعريض، والتعبيرُ عن النكاح بالسر لأن مُسبَّبَه الذي هو الوطء مما يُسرّ به وإيثارُه على اسمه للإيذان بأنه ينبغي أن يُسرّ به ويكتَم، وحملُه على الوطء ربما يُوهم الرُّخصة في المحظور الذي هو التصريحُ بالنكاح وقيل: انتصابُ سراً على الظرفية أي لا تواعدوهن في السر على أن المراد بذلك المواعدةُ بما يُستهجن وفيه ما فيه {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} استثناءٌ مفرَّغ مما يدل عليه النهي أي لا تواعدوهن مواعدةً ما إلا مواعدةً معروفة غيرَ منْكرةٍ شرعاً وهي ما يكون بطريق التعريض والتلويح أو إلا مواعدةً بقول معروف، أو لا تواعدوهن بشيء من الأشياء إلا بأن تقولوا قولاً معروفاً وقيل: هو استثناءٌ منقطعٌ من (سراً) وهو ضعيف لأدائه إلى جعل التعريض موعوداً وليس كذلك {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح} من عزم الأمرَ إذا قصده قصداً جازماً وحقيقتُه القطع بدليل قوله عليه السلام: «لا صيامَ لمن لم يعزِمِ الصيامَ من الليل» وروي «لمن لم يبيّت الصيام» والنهي عنه للمبالغة في النهي عن مباشرة عقدِ النكاح أي لا تعزِموا عُقدة النكاح {حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} أي (تبلُغَ) العدةُ المكتوبة المفروضةُ آخِرَها وقيل: معناه لا تقطعوا {على أَنفُسِكُمْ} عقدة النكاحِ أي لا تُبرِموها ولا تلزَموها ولا تَقَدَّموا عليها، فيكونُ نهياً عن نفس الفعل لا عن قصده.{واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} من ذواتِ الصُدور التي من جملتها العزمُ على ما نُهيتم عنه {فاحذروه} بالاجتناب عن العزم ابتداءً أو إقلاعاً عنه بعد تحققِه {واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ} يغفِرُ لمن يُقلعُ عن عزمه خشيةً منه تعالى {حَلِيمٌ} لا يعاجلُكم بالعقوبة فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نُهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبعُ المؤاخذةَ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لإدخال الروعة..تفسير الآية رقم (236): {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)}{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لا تِبعةَ من مهرٍ وهو الأظهرُ وقيل: من وِزْر، إذ لا بدعةَ في الطلاق قبل المسيس وقيل: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكثر النهيَ عن الطلاق فظُن أن فيه جُناحاً فنُفيَ ذلك {إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} أي ما لم تجامعوهن، وقرئ {تُماسُّوهن} بضم التاء في جميع المواقع أي مدة عدمِ مِساسِكم إياهن، على أن ما مصدريةٌ ظرفية بتقدير المضاف، ونقل أبو البقاءِ أنها شرطية بمعنى إن فيكون من باب اعتراض الشرط على الشرط فيكون الثاني قيداً للأول كما في قولك: إنْ تأتِني إن تُحسِنْ إلي أكرمْك أي إن تأتني محسِناً إليَّ والمعنى إن طلقتموهن غيرَ ماسِّين لهن، وهذا المعنى أقعَدُ من الأول لما أن ما الظرفية إنما يحسُن موقعُها فيما إذا كان المظروفُ أمراً ممتداً منطبقاً على ما أضيف إليها من المدة أو الزمان كما في قوله تعالى: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والارض} وقوله تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} ولا يخفى أن التطليقَ ليس كذلك، وتعليقُ الظرف بنفي الجُناحِ ربما يوهم إمكانَ المسيسِ بعد الطلاق، فالوجهُ أن يقدَّرَ الحالُ مكان الزمان والمدة {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي إلا أن تفرِضوا أو حتى تفرضوا لهن عند العقد مَهراً، على أن فريضة فعلية بمعنى مفعول، والتاءُ لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية، وانتصابُه على المفعولية ويجوز أن يكون مصدراً صيغةً وإعراباً، والمعنى أنه لا تِبعَةَ على المطلِّق بمطالبة المَهر أصلاً إذا كان الطلاقُ قبل المسيس على كل حال إلا في حال تسمية المهرِ فإن عليه حينئذٍ نصفَ المسمَّى، وفي حال عدمِ تسميتِه عليه المتعةُ لا نصفُ مَهرِ المثل وأما إذا كان بعد المسيسِ فعليه في صورة التسمية تمامُ المسمَّى، وفي صورة عدمها تمامُ مَهر المثل وقيل: كلمةُ أو عاطفةٌ لمدخولها على ما قبلها من الفعل المجزومِ على معنى ما لم يكن منكم مسيسٌ ولا فرضُ مَهرٍ.{وَمَتّعُوهُنَّ} عطفٌ على مقدّر ينسحبُ عليه الكلام أي فطلِّقوهن ومتِّعوهن، والحكمةُ في إيجاب المتعة جبرُ إيحاش الطلاقِ وهي دِرعٌ ومِلْحفة وخِمار على حسب الحال كما يُفصِحُ عنه قوله تعالى: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} أي ما يليق بحال كلَ منهما وقرئ بسكون الدال وهي جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مبينةٌ لمقدار المتعة بالنظر إلى حال المطلِّق إيساراً وإقتاراً، أو حالٌ من فاعل متِّعوهن بحذف الرابط أي على الموسع منكم إلخ أو على جعل الألف واللام عوضاً من المضاف إليه عند من يجوّزه أي على موسعكم إلخ وهذا إذا لم يكن مهرُ مثلِها أقل من ذلك فإن كان أقل فلها الأقلُ من نصف مهر المثل ومن المتعة ولا يُنقص عن خمسة دراهم {متاعا} أي تمتيعاً {بالمعروف} أي بالوجه الذي تستحسنه الشريعةُ والمروءة {حَقّاً} صفةٌ لمتاعاً أو مصدرٌ مؤكد أي حُقَّ ذلك حقاً {عَلَى المحسنين} أي الذين يُحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال، أو إلى المطلقات بالتمتيع بالمعروف وإنما سموا محسنين اعتباراً للمشارفة وترغيباً وتحريضاً..تفسير الآية رقم (237): {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}{وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ} قبل ذلك {فَرِيضَةً} أي وإن طلقتموهن من قبل المسيسِ حال كونِكم مُسمِّين لهن فيما سبق أي عند النكاحِ مَهراً على أن الجملةَ حالٌ من فاعل طلقتُموهن ويجوزُ أن تكون حالاً من مفعوله لتحقق الرابطِ بالنسبة إليهما. ونفس الفرض من المبني للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارِنْ حالةَ التطليق لكن اتصاف المطلقِ بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضاً لها فيما سبق.{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي فلهن نصفُ ما سمّيتم لهن من المَهر، فالواجبُ عليكم ذلك، وهذا صريحٌ في أن المنفي في الصورة السابقة إنما هو تبِعةُ المهر وقرئ بالنصب أي فأدوا نصفَ ما فرَضتم ولعل تأخيرَ حكمِ التسمية مع أنها الأصلُ في العقد والأكثرُ في الوقوع لما أن الآية الكريمة نزلت في أنصاريَ تزوج امرأةً من بني حنيفةَ وكانت مفوضةً فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام عند إظهار أن لا شيءَ له: «متِّعْها بقَلَنْسُوتك» {إَّلا أَن يَعْفُونَ} استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأحوال أي فلهن نصفُ المفروض معيناً في كل حال إلا حالَ عفوِهن فإنه يسقُط ذلك حينئذ بعد وجوبه، وظاهرُ الصيغة في نفسها يحتمل التذكيرَ والتأنيث وإنما الفرقُ في الاعتبار والتحقيق فإن الواوَ في الأولى ضميرٌ والنون علامة الرفع، وفي الثانية لامُ الفعل والنون ضمير والفعل مبنيّ ولذلك لم يؤثرْ فيه إنما تأثيرُه فيما عُطِفَ على محله من قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَاْ} بالنصب وقرئ بسكون الواو {الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} أي يتركُ الزوجُ المالك لعقده وحَلّه ما يعود إليه من نصفِ المَهر الذي ساقه إليها كاملاً على ما هو المعتاد تكرماً فإن تركَ حقِّه عليها عفواً بلا شُبهة، أو سمي ذلك عفواً في صورة عدم السَوْق مشاكلةً أو تغليباً لحال السَوْق على حال عدمِه فمرجِعُ الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادةِ في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إلى منع النقصانِ فيه أي فلهن هذا القدرُ بلا زيادة ولا نقصان في جميع الأحوال إلا في حال عفوهن فإنه حينئذ لا يكون لهن القدرُ المذكور بل ينتفي ذلك أو ينحطّ، أو في حال عفو الزوج فإنه حينئذ يكون لهن الزيادة على ذلك القدر هذا على التفسير الأول وأما على التفسير الثاني فلابد من المصير إلى جعل الاستثناء منقطعاً لأن في صورة عفوِ الزوجِ لا يُتصور الوجوبُ عليه هذا عندنا، وفي القول القديم للشافعي رحمه الله أن المراد عفوُ الولي الذي بيده عقدةُ نكاحِ الصغيرة وهو ظاهرُ المأخذ خلا أن الأول أنسبُ بقوله تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} إلى آخره فإن إسقاط حقِّ الصغيرة ليس في شيء من التقوى. وعن جُبير بن مُطعِم أنه تزوج امرأةً وطلقها قبل الدخول وأكمل لها الصَّداقَ وقال: أنا أحق بالعفو وقرئ بالياء {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} أي لا تتركوا أن يتفضل بعضُكم على بعض كالشيء المنسيِّ وقرئ بكسر الواو، والخطاب في الفعلين للرجال والنساء جميعاً بطريق التغليب {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يكاد يُضيع ما عمِلتم من التفضل والإحسان.
|